الحب في مناطق النزاع.. كيف تتأثر العلاقات العاطفية في ظل الحروب والصراعات؟
الحب في مناطق النزاع.. كيف تتأثر العلاقات العاطفية في ظل الحروب والصراعات؟
في مناطق النزاع يصبح الحب تحديًا معقدًا محفوفًا بالخوف وعدم اليقين، فالحروب والصراعات لا تقتصر على تدمير المدن والبنى التحتية، بل تمتد إلى تمزيق الروابط الإنسانية وفرض واقع جديد تتحكم فيه الفوضى والعنف والتشريد القسري.
في هذه البيئات، تصبح العلاقات العاطفية هشّة ومهددة، إذ يتزايد الضغط النفسي والاقتصادي، ويتحول المستقبل إلى مجهول، ما يترك أثرًا عميقًا على الشركاء العاطفيين والأسر، بل وعلى مفهوم الحب نفسه.
في يوم عيد الحب، الذي يُفترض أن يكون احتفاءً بالمشاعر الإنسانية، يجد الملايين من العشاق في مناطق النزاع أنفسهم منفصلين قسرًا عن أحبائهم.
وتشير تقارير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) إلى أن أكثر من 114 مليون شخص نزحوا قسرًا بسبب النزاعات المسلحة حول العالم حتى نهاية عام 2023، هذا التهجير القسري يترك بصمته القاسية على العلاقات، إذ تصبح خيارات الزواج والارتباط مقيدة بظروف اللجوء وعدم الاستقرار القانوني والاجتماعي، فضلاً عن انهيار البنى التحتية التي تسهّل بناء الأسر.
التأثير على الصحة النفسية
الأثر النفسي للحروب على الحب والعلاقات العاطفية لا يمكن تجاهله، فالتعرض المستمر للعنف والخوف يؤثر على الصحة النفسية للأفراد، مما يضعف قدرتهم على بناء علاقات مستقرة، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن 22% من الأشخاص الذين يعيشون في مناطق النزاع يعانون من اضطرابات نفسية، مثل القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
وتؤثر هذه العوامل على القدرة العاطفية للأفراد وتزيد من معدلات الطلاق والانفصال، كما تؤدي إلى عزوف الشباب عن الارتباط بسبب المخاوف من المستقبل الغامض.
ويبرز الزواج القسري كحد المآسي في النزاعات المسلحة، حيث تستغل الجماعات المتطرفة هشاشة الوضع الأمني لفرض زواج قسري على النساء والفتيات، ووفقًا لمنظمة اليونيسيف، فإن أكثر من 12 مليون فتاة تُجبر على الزواج سنويًا، ويزداد هذا العدد في الدول التي تشهد نزاعات مسلحة، حيث يُنظر إلى الزواج كوسيلة للحماية الاقتصادية أو الأمنية، ويضع هذا النساء في علاقات غير متكافئة، ويجردهن من حقهن في اختيار الشريك بحرية.
وتؤثر الصراعات على قرارات الهجرة ولمّ الشمل، إذ يُجبر العديد من الأزواج على العيش منفصلين لسنوات بسبب تعقيدات التأشيرات وإجراءات اللجوء، ووفقًا لمنظمة الهجرة الدولية (IOM)، فإن 35% من اللاجئين يفيدون بأنهم انفصلوا عن أحد أفراد عائلاتهم بسبب الحرب، التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على الروابط العاطفية رغم المسافات، حيث تسمح للأفراد بالتواصل وتجاوز القيود المفروضة عليهم، إلا أن هذا لا يعوض غياب التواصل الحسي والوجود الفعلي للشريك.
ولا يقل دور الإعلام في تسليط الضوء على قصص الحب في مناطق النزاع أهميةً عن الجهود الإنسانية، فالأفلام الوثائقية والتقارير الصحفية غالبًا ما تسلط الضوء على قصص مؤثرة لأزواج تحدوا الحرب وظروفها القاسية ليحافظوا على حبهم، وفي المقابل، هناك من يستغل الإعلام لنقل صورة مغلوطة عن العلاقات في هذه البيئات، ما يخلق تصورات غير دقيقة عن واقع العائلات في النزاعات المسلحة، فتوظيف الإعلام بشكل أكثر إنصافًا يمكن أن يسهم في زيادة الدعم الدولي لضحايا النزاعات ولمّ شمل العائلات.
وتلعب المنظمات الحقوقية والإنسانية دورًا حيويًا في دعم الحب والعلاقات في مناطق النزاع، إذ تعمل على لمّ شمل العائلات وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمتضررين، فبرامج إعادة التوطين ولمّ الشمل التي تنظمها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين ساعدت في عام 2023 أكثر من 20 ألف شخص على الاجتماع بأسرهم بعد سنوات من الفراق، كما توفر المنظمات الحقوقية الدعم القانوني والنفسي للناجين من الزواج القسري والعنف الأسري، مما يساعدهم على استعادة حياتهم واستقلاليتهم.
حق إنساني في مواجهة الانتهاكات
قالت الخبيرة الحقوقية الفلسطينية، أميرة شتا، إن الحروب لا تكتفي بتدمير المدن وسفك الدماء، بل تمتد آثارها لتغزو أدق تفاصيل الحياة اليومية، فتشوه الروابط الإنسانية، وتضع الحب والعلاقات العاطفية في مواجهة غير عادلة مع الفوضى والحرمان والخوف، وفي ظل النزاعات المسلحة تصبح المشاعر الإنسانية مثل الحب والارتباط العاطفي رفاهية صعبة المنال.
وتابعت شتا، في تصريحات لـ"جسور بوست": في مناطق الحروب يكون الحب مرهونًا بقرارات سياسية وقوى عسكرية لا تعترف بالمشاعر، حيث يجد الملايين من الأزواج والأحباء أنفسهم منفصلين قسرًا بسبب التهجير، حيث تتحول الحدود إلى جدران عاطفية تعوق لمّ شمل الأسر.
واسترسلت: العنف الجنسي والزواج القسري وجهان آخران للمعاناة في ظل النزاعات، إذ يجبر انهيار أنظمة الحماية القانونية والاجتماعية الفتيات على الزواج بدافع الحماية أو لضمان موارد مالية، وغالبًا ما يكون ذلك نتيجة ضغط الأسرة أو تهديدات الجماعات المسلحة… فيما تنص المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن الزواج يجب أن يكون بالتراضي الكامل، لكن في مناطق النزاع، يصبح الزواج أداة استغلال وقهر، حيث يُفرض على النساء والفتيات دون إرادتهن.
وشددت شتا على أن الحق في الصحة النفسية يتعرض لانتهاك صارخ في النزاعات، مما ينعكس على العلاقات العاطفية، فالعيش في بيئة مليئة بالخوف والدمار يولّد اضطرابات نفسية حادة مثل الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، ما يضع عبئًا هائلًا على العلاقات العاطفية، ويجعل من الصعب بناء روابط مستقرة.
وقالت إن الحب في مناطق النزاع يعتبر معركة أخرى ضد انتهاكات حقوق الإنسان، إذ إن كل علاقة تمزقها الحرب وكل أسرة تُجبر على الانفصال وكل عاشق يُحرم من حقه في التواصل مع شريكه هو ضحية جديدة لعالم يسمح للنزاعات بأن تتحكم في المشاعر الإنسانية الأساسية، وإذا كان هناك درس واحد يجب استخلاصه فهو أن النضال من أجل الحب هو جزء من النضال من أجل الحقوق.
صمود العاطفة في وجه الاضطرابات
قال الخبير الاجتماعي والأكاديمي، طه أبو الحسن، إن الحروب والصراعات لا تقتصر على تدمير البنى التحتية وتشريد السكان، بل تمتد آثارها إلى بنية العلاقات الاجتماعية، إذ تصبح الروابط العاطفية أكثر هشاشة أمام الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية، فالحب الذي يفترض أن يكون مساحة للأمان العاطفي والدعم، يتحول في ظل النزاعات إلى اختبار قاسٍ للبقاء، إذ تواجه العلاقات العاطفية تحديات غير مألوفة تجعلها إما أكثر صلابة أو عرضة للانهيار.
وتابع أبو الحسن، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الضغط النفسي الناجم عن الحروب يخلق بيئة غير صحية للعلاقات، حيث يعيش الأفراد في حالة مستمرة من التوتر والخوف من المستقبل، وتزداد معدلات القلق والاكتئاب بين السكان في مناطق النزاع، كما تؤكد الدراسات الاجتماعية، ويصبح من الصعب على الأفراد التعبير عن مشاعرهم أو حتى التواصل العاطفي الصحي مع الشريك، وكثيرًا ما تتحول المشاعر إلى طاقة مكبوتة تتفجر في شكل نوبات غضب أو انعزال عاطفي، ما يؤدي إلى تفكك العلاقات أو بروز أنماط سلبية من التفاعل بين الشريكين.
واسترسل: البعد الاقتصادي للصراع يضيف بعدًا آخر إلى تعقيد العلاقات العاطفية، إذ تزداد الضغوط المالية على الأفراد والأسر، مما يؤثر على قرارات الزواج والاستقرار، وفي كثير من الأحيان، تصبح الشراكات العاطفية مشروطة بالقدرة الاقتصادية، حيث تتغير معايير الارتباط من الحب والتفاهم إلى البحث عن الأمان المالي، فالرجال يجدون أنفسهم عاجزين عن الزواج بسبب فقدان مصادر الدخل، بينما تواجه النساء ضغوطًا متزايدة للزواج المبكر كوسيلة لضمان الحماية الاقتصادية.
وأشار أبو الحسن إلى أنه وفي ظل غياب الهياكل الاجتماعية التي تدعم العلاقات العاطفية تصبح هذه العلاقات أكثر هشاشة، إذ تقل فرص التفاعل الطبيعي بين الأفراد، وتتآكل المساحات الاجتماعية التي كانت توفر بيئة ملائمة لنشوء العلاقات، في المجتمعات التي تشهد نزاعات طويلة الأمد، وتصبح العلاقات العاطفية محدودة بفعل القيود الاجتماعية المفروضة بسبب الحرب، إذ تتقلص فرص التعارف والتفاعل الطبيعي بين الأفراد، مما يجعل العلاقات القائمة تعتمد على الارتباطات العائلية أو الظروف المفروضة أكثر من كونها مبنية على الاختيار الحر.
وقال إن العنف الأسري هو أحد التداعيات الاجتماعية غير المباشرة للحروب، إذ تؤدي الضغوط النفسية والاقتصادية إلى تفاقم التوترات داخل الأسر، مما يزيد من معدلات العنف داخل العلاقات العاطفية، حيث يزداد العنف ضد النساء في أوقات النزاعات بسبب تفشي الذكورية المتشددة والضغوط النفسية التي يواجهها الرجال، ما يحول العلاقات العاطفية إلى بيئات غير آمنة.
وأتم: وسط هذا المشهد القاتم يبقى الحب أحد أشكال المقاومة الاجتماعية، إذ يسعى الأفراد للحفاظ على مشاعرهم رغم الفوضى المحيطة بهم، وفي بعض الحالات تصبح العلاقات العاطفية مصدر قوة للأفراد، إذ تمنحهم شعورًا بالانتماء والدعم النفسي في مواجهة الأزمات، ويظل الحب في مناطق النزاع خاضعًا لاعتبارات تتجاوز المشاعر، حيث يصبح بقاء العلاقة العاطفية مرهونًا بالقدرة على التكيف مع واقع مليء بالاضطرابات، ما يجعل الحب في زمن الحرب أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى.